فصل: تفسير الآية رقم (58):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (54):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [54].
{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} أي: بالشرك بالله، أو التعدي على الغير، أو مطلقاً: {مَا فِي الأَرْضِ} أي: من الأموال: {لاَفْتَدَتْ بِهِ} أي: لجعلته فدية لها من العذاب: {وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ} أي: أخفوها أسفاً على ما فعلوا من الظلم. وضمير: {أَسَرُّواْ} للنفوس، المدلول عليها بـ: كل نفس. والعدول إلى صيغة الجمع؛ لتهويل الخطب، بكون الخطب بطريق الاجتماع: {لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ} أي: عاينوه: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أي: فيما فعل بهم من العذاب؛ لأنه جزاء ظلمهم. وقوله تعالى:

.تفسير الآيات (55- 56):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [55- 56].
{أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} إعلام بأن له الملك كله، وأنه المثيب المعاقب، وما وعده من الثواب والعقاب فهو حق، وهو القادر على الإحياء والإماتة، لا يقدر عليهما غيره، وإلى حسابه وجزائه المرجع، ليعلم أن الأمر كذلك، فيخاف ويرجى، ولا يغتر به المغترون- كذا في الكشاف-.

.تفسير الآية رقم (57):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [57].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أي: تزكية نفوسكم بالوعد والوعيد، والإنذار والبشارة، والزجر عن الذنوب المورطة في العقاب، والتحريض على الأعمال الموجبة للثواب، لتعملوا على الخوف والرجاء: {وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ} أي: القلوب من أمراضها، كالشك والنفاق، والغل والغش، وأمثال ذلك، بتعليم الحقائق، والحكم الموجبة لليقين، وتصفيتها بقبول المعارف، والتنوير بنور التوحيد: {وَهُدًى} أي: لنفوسكم من الضلالة: {وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} أي: لمن آمن به بالنجاة من العذاب والارتقاء إلى درجات النعيم.

.تفسير الآية رقم (58):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [58].
{قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ} يعني القرآن الذي أكرموا به: {وَبِرَحْمَتِهِ} يعني الإسلام: {فَبِذَلِكَ} أي: فبمجيئهما: {فَلْيَفْرَحُواْ} أي: لا بالأمور الفانية القليلة المقدار، الدنيئة القدر والوقع: {هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} أي: من الأموال وأسباب الشهوات، إذ لا ينتفع بجميعها ولا يدوم، ويفوت به اللذات الباقية، بحيث يحال بينهم وبين ما يشتهون.
والفاء داخلة في جواب شرط مقدر، كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فبهما فليفرحوا، أو هي رابطة لما بعدها بما قبلها، لدلالتها على تسبب ما بعدها عما قبلها. والفاء الثانية زائدة لتأكيد الأولى، أو الزائدة الأولى، لأن جواب الشرط في الحقيقة: {فَلْيَفْرَحُواْ} و{بِذَلِكَ} مقدم من تأخير، وزيدت فيه الفاء للتحسين. وكذلك جوز أن يكون بدلاً من قوله: {بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ}.
ثم بيَّن تعالى أن من فضله على الناس تبيين الحرام من الحلال على ألسنة الرسل لئلا يفتروا عليه الكذب بتحريم ما أحل أو عكسه، كما فعل المشركون، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (59):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ} [59].
{قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ} أي: ما خلق لكم من حرث وأنعام: {فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً} أي: أنزله تعالى رزقاً حلالاً كله، فبغضتموه، وقلتم: هذا حلال وهذا حرام، كقولهم: {هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْر} [الأنعام: من الآية 138]: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: من الآية 139]: {قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ} في الحكم بالتحريم والتحليل، فأنتم تفعلون ذلك بإذنه: {أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ} أي: تختلقون الكذب، ثم بيَّن وعيد هذا الافتراء بقوله:

.تفسير الآية رقم (60):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} [60].
{وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: فيما يفعل بهم، وهو يوم الجزاء بالإحسان والإساءة، وهو وعيد عظيم، حيث أبهم أمره: {إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} في إنزال الوحي وتعليم الحلال والحرام: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} أي: هذه النعمة، فيستعملون ما وهب إليهم من الاستعداد والعلوم في مطالب النفس الخسيسة ولا يتبعون ما هدوا إليه.

.تفسير الآية رقم (61):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [61].
{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} أي: أمر ما: {وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ} أي: التنزيل: {مِن قُرْآنٍ} أي: سورة أو آية: {وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} أي: تخوضون وتندفعون فيه: {وَمَا يَعْزُبُ} أي: يغيب: {عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ} أي: نملة أو هباء: {فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء} أي: في دائرة الوجود والإمكان.
وقوله تعالى: {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} كلام برأسه، مقرر لما قبله، أي: مكتوب مبين، لا التباس فيه، والمراد بالآية البرهان على إحاطة علمه تعالى بحال أهل الأرض، بأن من لا يغيب عن علمه شيء كيف لا يعرف حال أهل الأرض، وما هم عليه مع نبيه صلى الله عليه وسلم؟! وقوله تعالى:

.تفسير الآيات (62- 64):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [62- 64].
{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللّهِ} جمع ولي، وهو في الأصل ضد العدو، بمعنى المحب، وجاز كونه هنا بمعنى الفاعل، أي: الذين يتولونه بالطاعة، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56] وبمعنى المفعول أي: الذي يتولاهم بالإكرام، كقوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور} [البقرة: من الآية 257]، وقوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُه} [المائدة: من الآية 55] الآية- وكلا المعنيين متلازمان: {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من لحوق مكروه {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} أي: من الفزع الأكبر، كما في قوله تعالى: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَر} [الأنبياء: من الآية 103].
{الَّذِينَ آمَنُواْ} أي: بكل ما جاء من عند الله تعالى: {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} أي: يخافون ربهم، فيفعلون أوامره، ويتجنبون مناهيه، من الشرك والكفر والفواحش. ومحل الموصول الرفع على أنه خبر لمحذوف، كأنه قيل: من أولئك، وما سبب فوزهم بذاك الإكرام؟ فقيل: هم الذين جمعوا بين الإيمان والتقوى، المفضيين إلى كل خير، المنجيين من كل شر، أو النصب بمحذوف.
وقوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}: {الْبُشَرى} مصدر إما باق على مصدريته، والمبشر به محذوف، أي: لهم البشارة فيهما بالجنة، وإنما حذف للعلم به من آيات أخر، كقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا} إلى قوله: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 20- 21] وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]، وإما مراد به المبشر به، وتعريفه للعهد، كقوله سبحانه: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد: 12].
وقوله تعالى: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ} أي: لمواعيده: {ذَلِكَ} أي: بشراكم، وهي الجنة {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي: المنال الجليل، الذي لا مطلب وراءه، كيف وقد فازوا بالجنة وما فيها، ونجوا من النار وما فيها؟!.
تنبيه:
هذه الآية الكريمة أصل في بيان أولياء الله، وقد بين تعالى في كتابه، ورسوله في سنته، أن لله أولياء من الناس، كما أن للشيطان أولياء، وللإمام تقي الدين بن تيمية عليه الرحمة كتاب في ذلك سماه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان نقتبس منه جملة يهم الوقوف عليها، لكثرة ما يدور على الألسنة من ذكر الولي والأولياء. قال رحمه الله:
إذا عرف أن الناس فيهم أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان، فيجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء، كما فرق الله ورسوله بينهما. فأولياء الله هم المؤمنون المتقون، كما في هذه الآية، وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، أو فقد آذنته بالحرب...» الحديث- وهذا أصح حديث يروى في الأولياء، دل على أن من عادى ولياً لله، فقد بارز الله بالمحاربة.
وفي حديث آخر: «وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب» أي: آخذ ثأرهم ممن عاداهم، كما يأخذ الليث الحرب ثأره، وهذا لأن أولياء الله هم الذين آمنوا به ووالوه، فأحبوا ما يحب، وأبغضوا ما يبغض، ورضوا بما يرضى، وسخطوا بما يسخط، وأمروا بما يأمر، ونهوا عما نهى، وأعطوا لمن يحب أن يعطى، ومنعوا من يحب أن يمنع.
والولاية ضد العداوة. وأصل الولاية المحبة والقرب. وأصل العداوة البغض والبعد.
وأفضل أولياء الله هم أنبياؤه، وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم، أفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وإمام المتقين، الذي بعثه الله بأفضل كتبه، وشرع له أفضل شرائع دينه، وجعله الفارق بين أوليائه وأعدائه، فلا يكون ولياً لله إلا من آمن به، وبما جاء به، واتبعه ظاهراً وباطناً. ومن ادعى محبة الله وولايته، وهو لم يتبعه، فليس من أولياء الله، بل من خالفه كان من أعداء الله وأولياء الشيطان. وإن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو في غيرهم أنهم من أولياء الله، ولا يكونون من أولياءه. فاليهود والنصارى يدعون أنهم أولياء الله وأحباؤه. قال تعالى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَق} [المائدة: من الآية 18] الآية، وكان مشركو العرب يدعون أنهم أهل الله، لسكناهم مكة، ومجاورتهم البيت، فأنزل تعالى: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34]، وكما أن من الكفار من يدعي أنه ولي الله، وليس ولياً لله، بل عدو له، فكذلك من المنافقين الذين يظهرون الإسلام، يقرون في الظاهر بالشهادتين، ويعتقدون في الباطن ما يناقض ذلك، مثل ألا يقروا باطناً برسالته عليه السلام، وإنما كان ملكاً مطاعاً، ساس الناس برأيه، من جنس غيره من الملوك. أو يقولون: إنه رسول الله إلى الأميين خاصة. أو يقولون: إنه مرسل إلى عامة الخلق، وأن لله أولياء خاصة لم يرسل إليهم، ولا يحتاجون إليه، بل لهم طريق إلى الله من غير جهته، كما كان الخضر مع موسى. أو أنهم يأخذون عن الله كل ما يحتاجون إليه، وينتفعون به من غير واسطة، أو أنه مرسل بالشرائع الظاهرة وهم موافقون له فيها. وأما الحقائق الباطنة، فلم يرسل بها، أو لم يكن يعرفها، أو هم أعرف بها منه، أو يعرفونها مثل ما يعرفها من غير طريقته، فهؤلاء كلهم كفار، مع أنهم يعتقدون في طائفتهم أنهم أولياء الله. وإنما أولياء الله: الذي وصفهم تعالى بولايته بقوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62- 63].
ولا بد في الإيمان من أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، مرسل إلى جميع الثقلين الإنس والجن. فكل من لم يؤمن بما جاء به فليس بمؤمن، فضلاً عن أن يكون من أولياء الله المتقين ومن آمن ببعض ما جاء به، وكفر ببعض، فهو كافر ليس بمؤمن.
ومن الإيمان به، الإيمان بأنه الواسطة بين الله وبين خلقه، في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وحلاله وحرامه. فالحلال: ما أحله الله ورسوله، والحرام: ما حرمه الله ورسوله، والدين: ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمن اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقاً إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو كافر من أولياء الشيطان.
وأما خلق الله تعالى للخلق، ورزقه إياهم، وإجابته لدعائهم، وهدايته لقلوبهم، ونصرهم على أعدائهم، وغير ذلك من جلب المنافع، ودفع المضار، فهذا لله وحده، يفعله بما يشاء من الأسباب، لا يدخل في مثل هذا وساطة الرسل.
ثم لو بلغ الرجل في الزهد والعبادة والعلم ما بلغ، ولم يؤمن بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فليس بمؤمن، ولا ولي لله تعالى، كالأحبار والرهبان من علماء اليهود والنصارى وعبَّادهم، وكذلك المنتسبون إلى العلم والعبادة من مشركي العرب والترك والهند وغيرهم، ممن كان من حكماء الهند والترك، وله علم أو زهد وعبادة في دينه، وليس مؤمناً بجميع ما جاء به، فهو كافر، عدو لله، وإن ظن طائفة أنه ولي لله. كما كان حكماء الفرس من المجوس كفاراً مجوساً، وكذلك حكماء اليونان مثل: أرسطو وأمثاله، كانوا مشركين، يعبدون الأصنام والكواكب. وفي أصناف المشركين من هذه الطوائف من له اجتهاد في العلم والزهد والعبادة، ولكن ليس بمؤمن بالرسل، ولا يصدقهم فيما أخبروا به ولا يطيعهم فيما أمروا، فهؤلاء ليسوا بمؤمنين، ولا أولياء لله، وهؤلاء تقترن بهم الشياطين وتنزل عليهم، فيكاشفون الناس ببعض الأمور، ولهم تصرفات خارقة من جنس السحر، وهم من جنس الكهان والسحرة الذين تنزل عليهم الشياطين. قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء: 221- 223]، وهؤلاء جميعهم الذين ينتسبون إلى المكاشفات، وخوارق العادات، إذا لم يكونوا متبعين للرسل، فلابد أن يكذبوا وتكذبهم شياطينهم، لابد أن يكون في أعمالهم ما هو إثم وفجور، مثل نوع من الشرك أو الظلم أو الفواحش أو الغلو أو البدع في العبادة، ولهذا تنزلت عليهم الشياطين، واقترنت بهم، فصاروا من أولياء الشيطان، لا من أولياء الرحمن.
ومن الناس من يكون فيه إيمان، وفيه شعبة من نفاق، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان». وفي صحيح مسلم: «وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم».
وإذا كان أولياء الله هم المؤمنون المتقون فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى، فمن كان أكمل إيماناً وتقوى كان أكمل ولاية لله. فالناس متفاضلون في ولاية الله عز وجل، بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى، وكذلك يتفاضلون في عداوة الله بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق.
وأولياء الله على طبقتين: سابقون ومقربون وأصحاب يمين مقتصدون، ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز. فالأبرار أصحاب اليمين، هم المتقربون إلى الله بالفرائض، يفعلون ما أوجب الله عليهم، ويتركون ما حرم الله عليهم، ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات، ولا الكف عن فضول المباحات. وأما السابقون المقربون، فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، ففعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباتهم أحبهم الرب حباً تاماً، كما قال تعالى: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» يعني الحب المطلق.
ثم إذا كان العبد لا يكون ولياً لله إلا إذا كان مؤمناً تقياً، لهذه الآية، فمعلوم أن أحداً من الكفار والمنافقين لا يكون ولياً لله. وكذلك من لا يصح إيمانه وعباداته، وإن قدر أنه لا إثم عليه، مثل أطفال الكفار، ومن لم تبلغه الدعوة، وإن قيل: إنهم لا يعذبون حتى يُرسل إليهم رسولاً فلا يكونون من أولياء الله، إلا إذا كانوا من المؤمنين المتقين. فمن يتقرب إلى الله لا بفعل الحسنات ولا بفعل السيئات، لم يكن من أولياء الله.
وكذلك المجانين والأطفال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ». وهذا الحديث قد رواه أهل السنن من حديث عائشة رضي الله عنها، واتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقبول. ولكن الصبي المميز تصح عباداته، ويثاب عليها عند جمهور العلماء، وأما المجنون الذي رفع عنه القلم، فلا يصح شيء من عباداته باتفاق العلماء، ولا يصح منه إيمان ولا كفر ولا صلاة ولا غير ذلك من العبادات، بل لا يصلح هو، عند عامة العقلاء لأمور الدنيا، كالتجارة والصناعة، فلا يصح أن يكون بزازاً ولا عطاراً ولا حداداً ولا نجاراً، ولا تصح عقوده باتفاق العلماء. فلا يصح بيعه ولا شراؤه ولا نكاحه ولا طلاقه ولا إقراره ولا شهادته، ولا غير ذلك من أقواله، بل أقواله كلها لغو لا يتعلق بها حكم شرعي، ولا ثواب ولا عقاب، بخلاف الصبي المميز فإن له أقوالاً معتبرة في مواضع، بالنص والإجماع، وفي مواضع فيها نزاع. وإذا كان المجنون لا يصح منه الإيمان ولا التقوى ولا التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل، وامتنع أن يكون ولياً لله، فلا يجوز لأحد أن يعتقد أنه ولي لله، لاسيما أن تكون حجته على ذلك إما مكاشفة سمعها منه، أو نوعاً من تصرف، مثل أن يراه قد أشار إلى واحد فمات أو صرع، فإنه قد علم أن الكفار والمنافقين من المشركين وأهل الكتاب لهم مكاشفات وتصرفات شيطانية، كالكهان والسحرة وعبَّاد المشركين وأهل الكتاب، فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص ولياً لله، إن لم يعلم ما يناقض ولاية الله، فكيف إذا علم منه ما يناقض ولاية الله؟ مثل أن يعلم أنه لا يعتقد وجوب إتباع النبي صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر، دون الحقيقة الباطنة، أو يعتقد أن لأولياء الله طريقاً إلى الله غير طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو يقول: إن الأنبياء ضيقوا الطريق، أو هم قدوة العامة دون الخاصة، ونحو ذلك مما يقوله بعض من يدعي الولاية، فهؤلاء فيهم من الكفر ما يناقض الإيمان، فضلاً عن ولاية الله عز وجل. فمن احتج بما يصدر عن أحدهم، من خرق عادة على ولايتهم، كان أضل من اليهود والنصارى، وكذلك المجنون، فإن كونه مجنوناً يناقض أن يصح منه الإيمان والعبادات، التي هي شرط في ولاية الله. ومن كان يجن أحياناً، ويفيق أحياناً، إذا كان في حال إفاقته مؤمناً بالله ورسوله، ويؤدي الفرائض، ويجتنب المحارم، فهذا إذا جن، لم يكن جنونه مانعاً من أن يثيبه الله على إيمانه وتقواه الذي أتى به في حال إفاقته، ويكون له من ولاية الله بحسب ذلك، وكذلك من طرأ عليه الجنون بعد إيمانه وتقواه، فإن الله يثيبه ويأجره على ما تقدم من إيمانه وتقواه، ولا يحبطه بالجنون الذي ابتلي به من غير ذنب فعله، ولا قلم مرفوع عنه في حال جنونه.
فعلى هذا، فمن أظهر الولاية وهو لا يؤدي الفرائض، ولا يجتنب المحارم، بل قد يأتي بما يناقض ذلك، لم يكن لأحد أن يقول: هذا ولي لله، فإن هذا إن لم يكن مجنوناً، بل كان متولهاً من غير جنون، أو كان يغيب عقله بالجنون تارة، ويفيق أخرى، وهو لا يقوم بالفرائض بل يعتقد أنه لا يجب عليه إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وإن كان مجنونا باطناً وظاهراً قد ارتفع عنه القلم. فهذا وإن لم يكن معاقباً عقوبة الكافرين، فليس هو مستحقاً لما يستحقه أهل الإيمان والتقوى من كرامة الله عز وجل، فلا يجوز على التقديرين أن يعتقد فيه أحد أنه ولي لله، لكن إن كان له حالة في إفاقته كان فيها مؤمناً بالله متقياً، كان له من ولاية الله بحسب ذلك، وإن كان له في حال فيه كفر أو نفاق، أو كان كافراً أو منافقاً ثم طرأ عليه الجنون، فهذا فيه من الكفر والنفاق ما يعاقب عليه، وجنونه لا يحبط عنه ما يحصل منه حال إفاقته من كفر أو نفاق.
فصل:
وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات، فلا يتميزون بلباس دون لباس، ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ضفره، إذا كان كلاهما مباحاً، كما قيل: كم من صديق في قباء، وكم من زنديق في عباء. بل يوجدون في جميع أصناف أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا لم يكونوا من أهل البدع الظاهرة والفجور. فيوجدون في أهل القرآن، وأهل العلم، ويوجدون في أهل الجهاد والسيف، ويوجدون في التجار والصناع والزراع. وكان السلف يسمون أهل الدين والعلم القراء فيدخل فيهم العلماء والنساك. ثم حدث بعد ذلك اسم الصوفية والفقراء واسم الصوفية: نسبة إلى لباس الصوف. هذا هو الصحيح، وقد قيل: إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء، وقيل إلى صوفة بن أد قبيلة من القرب كانوا يعرفون بالنسك، وقيل إلى أهل الصفا، وقيل إلى الصفوة، وقيل إلى الصفة، وقيل إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى. وهذه أقوال ضعيفة، فإنه لو كان كذلك لقيل: صفي، أو صفائي، أو صُفي، ولم يقل صوفي، وصار أيضاً اسم الفقراء يعني به أهل السلوك، وهذا عرف حادث، وقد تنازع الناس، أيما أفضل: مسمى الصوفي أو مسمى الفقير؟ ويتنازعون أيضاً: أيما أفضل؟ الغني الشاكر، أو الفقير الصابر؟ والصواب في هذا كله ما قاله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي: الناس أفضل؟ قال: «أتقاهم»، فدل الكتاب والسنة على أن أكرم الناس عند الله أتقاهم. وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود، إلا بالتقوى». وعنه أيضاً صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى أذهب عنكم عُبِّية الجاهلية وفخرها بالآباء. الناس رجلان: مؤمن تقي وفاجر شقي».
فصل:
وليس من شرط ولي الله أن يكون معصوماً لا يغلط ولا يخطئ، بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين، حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به مما نهى الله عنه، ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات أولياء الله تعالى، وتكون من الشيطان لبَّسها عليه، لنقص درجته، ولا يعرف أنها من الشيطان، وإن لم يخرج بذلك عن ولاية الله تعالى. فإن الله سبحانه وتعالى تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، ولم يؤثِّم النبي صلى الله عليه وسلم المجتهد المخطئ بل جعل له أجراً على اجتهاده، وجعل خطأه مغفوراً له، ولهذا لما كان ولي الله يجوز أن يغلط، لم يجب على الناس الإيمان بجميع ما يقوله من هو ولي الله، إلا أن يكون نبياً، بل ولا يجوز لولي الله أن يعتمد على ما يلقى إليه في قلبه، إلا أن يكون موافقاً، وعلى ما يقع له مما يراه إلهاماً ومحادثة وخطاباً من الحق، بل يجب عليه أن يعرض ذلك جميعه على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فإن وافقه قبله وإن خالفه لم يقبله، وإن لم يعلم أموافق هو أم مخالف توقف فيه. والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف: طرفان ووسط. فمنهم من إذا اعتقد في شخص أنه ولي الله وافقه في كل ما يظن أنه حدثه به قلبه عن ربه، وسلم إليه جميع ما يفعله. ومنهم من إذا رآه قد قال أو فعل ما ليس بموافق للشرع، أخرجه عن ولاية الله بالكلية وإن كان مجتهداً مخطئاً، وخيار الأمور أوساطها، وهو ألا يجعل معصوماً ولا مأثوماً، إذا كان مجتهداً مخطئاً، فلا يتبع في كل ما يقوله، ولا يحكم عليه بالكفر والفسق مع اجتهاده. والواجب على الناس إتباع ما بعث الله به رسوله. وأما إذا خالف قول بعض الفقهاء، ووافق قول آخرين، لم يكن لأحد أن يلزمه بقول المخالف، ويقول: هذا خالف الشرع.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن كان في أمتي أحد فعمر منهم». وكان عمر يقول: اقتربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون، فإنه يتجلى لهم أمور صادقة. والمحدث الذي يأخذ عن قلبه أشياء ليس بمعصوم، فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة ويناظرهم ويرجع إليهم في بعض الأمور، وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم، ويحتجون عليه بالكتاب والسنة، ويقررهم على منازعته، ولا يقول لهم: أنا محدث ملهم مخاطب، فينبغي لكم أن تقبلوا مني ولا تعارضوني. فأي من ادعى له أصحابه أنه ولي الله، وأنه مخاطب يجب على أتباعه أن يقبلوا منه كل ما يقوله ولا يعارضوه ويسلموا له حاله من غيره اعتبار بالكتاب والسنة، فهو وهُم مخطئون. ومثل هذا من أضل الناس. فعمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل منه، وهو أمير المؤمنين، وكان المسلمون ينازعونه ويعرضون ما يقول هو وهم على الكتاب والسنة. وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم. ولذا قال الجنيد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة. وقال أبو عثمان النيسابوري: من أمَّر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمَّر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة، لقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: من الآية 54] وقال أبو عَمْرو بن نجيد: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل.
فأولياء الله تعتبر بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، ويعرفون بنور الإيمان والقرآن، وبحقائق الإيمان الباطنة، وشرائع الإسلام. فإذا كان الشخص مباشراً للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان، أو يأوي إلى الحمامات والحشوش التي تحضرها الشياطين، أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير وآذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق، أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبها الشيطان، أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات، ويتوجه إليها، أو يسجد إلى ناحية شيخه ولا يخلص الدين لرب العالمين، أو يلابس الكلاب أو النيران، أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة، أو يأوي إلى المقابر، لاسيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى أو المشركين، أو يكره سماع القرآن وينفر عنه، ويقدم عليه سماع الأغاني والأشعار، ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن، فهذه علامات أولياء الشيطان، لا علامات أولياء الرحمن- انتهى ملخصاً-.
والكتاب مما يلزم الوقوف عليه، ومطالعته بالحرف، ففيه من الفوائد ما لا يوجد في غيره، فرحم الله جامعه، وجزاه خيراً. وقوله تعالى: